الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد: .
أولا: تلاوة القرآن عبادة محضة، وقربة يتقرب بها العبد إلى ربه، والأصل
فيها وفي أمثالها من العبادات المحضة، أن يفعلها المسلم ابتغاء مرضاة
الله، وطلبًا للمثوبة عنده، فلا يبتغي بها المخلوق جزاء ولا شكورًا. .
ولهذا لم يعرف عن السلف الصالح استئجار قوم يقرؤون القرآن في حفلات، أو
ولائم، ولم يؤثر عن أحد من أئمة الدين أنه أمر بذلك أو رخص فيه، ولم يعرف
-أيضًا- عن أحد منهم أنه أخذ أجرًا على تلاوة القرآن، لا في الأفراح ولا
في المآتم، بل كانوا يتلون كتاب الله رغبة، فيما عنده سبحانه.
وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- من قرأ القرآن أن يسأل الله به، وحذر
من سؤال الناس، روى الترمذي في سننه عن عمران بن حصين: أنه مر على قارئ
يقرأ، ثم سأل فاسترجع ثم قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: من قرأ القرآن، فليسأل الله به، فإنه سيجيء أقوام يقرؤون القرآن، يسألون به الناس
.
.
وأما أخذ الأجرة على تعليمه، أو الرقية به، ونحو ذلك مما نفعه متعد لغير
القارئ، فقد دلت الأحاديث الصحيحة على جوازه، كحديث أبي سعيد في أخذه
قطيعًا من الغنم وجُعلا على شفاء من رقاه بسورة الفاتحة .
وحديث سهل في تزويج النبي -صلى الله عليه وسلم- امرأة لرجل بتعليمه إياها ما معه من القرآن .
فمن أخذ أجرًا على نفس التلاوة، أو استأجر جماعة لتلاوة القرآن، فهو مخالف لما أجمع عليه السلف الصالح، رضوان الله عليهم. .
ثانيًا: القرآن كلام الله -تعالى- وفضله على كلام الخلق كفضل الله على
عباده، وهو خير الأذكار وأفضلها، فينبغي لقارئه أن يكون مؤدبًا في تلاوته،
خاشعًا مخلصًا قلبه لله، محكمًا لتلاوته، متدبرًا لمعانيه حسب قدرته، وألا
يتشاغل عنها بغيرها، وألا يتكلف ولا يتقعر فيها، وألا يرفع صوته فوق
الحاجة.
وينبغي لمن حضر مجلسًا، يقرأ فيه القرآن: أن ينصت
ويستمع للقراءة ويتدبر معانيها، فلا يلغو ولا يتشاغل عنها بالحديث مع
غيره، ولا يشوش على القارئ ولا على الحاضرين، قال الله -تعالى-:
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا
وقال :
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ
مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ
.
ثالثًا: الناس متفاوتون في أفهامهم وأفكارهم، وكل مكلف عليه أن يعرف من
الدين وأحكام الشريعة بقدر ما آتاه الله من الفهم وسعة الوقت؛ ليعمل به
ويرشد به غيره، ومن أول ما ينبغي له أن يتفهمه ويلقي إليه باله، ويحضر
قلبه كتاب الله سبحانه، وما عجز عن فهمه بنفسه استعان فيه بالله، ثم
بالعلماء حسب طاقته وقدرته، ثم لا حرج عليه بعد ذلك، فإن الله -سبحانه- لا
يكلف نفسًا إلا وسعها، ولا يمنعه من تلاوة القرآن عجزه عن فهمه بعد أن بذل
وسعه، ولا يعاب بذلك لما ثبت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: الماهر في القرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن، ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق له أجران .
.
رابعا: يجوز للفقير أن يأخذ من الصدقات ما يسد حاجته، وحاجة من يعول، ويسن
له أن يدعو بالخير لمن تصدق عليه، أما أخذ المال على أنه أجر لتلاوة
القرآن، أو لكونه وعظهم وذكرهم، أو إعطاؤه لشخص رجاء بركته، أو جمعه أشخاص
رجاء بركتهم، واستجداء لدعائهم، فهو غير جائز، ولم يكن ذلك من هدي
المسلمين في القرون الثلاثة الأولى، التي شهد لها النبي -صلى الله عليه
وسلم- بأنها خير القرون.
خامسا: معنى قوله -تعالى-: ( قُلْ
مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) ، أن الله- تعالى- أمر رسوله
محمدا -صلى الله عليه وسلم- أن يخبر قومه بأنه لا يطلب منهم أجرا على
تبليغهم ما أنزل إليه من ربه، ودعوته إياهم إلى التوحيد الخالص وسائر
أحكام الإسلام، إنما يقوم بالبلاغ والبيان للأمة تنفيذا لأمر الله وطاعة
له، ابتغاء مرضاته وحده، ورجاء المثوبة والأجر الكريم منه -سبحانه- دون
سواه، وبذلك ليزيل ما قد يكون في نفوس المشركين من ظنون وأوهام كاذبة، أن
يكون الرسول -صلى الله عليهم وسلم- دعاهم إلى اتباعه، فيما شرع الله لهم؛
ليتكسب بذلك، أو ينال رئاسة في قومه، فبين لهم أن دعوته إياهم إلى الحق
خالصة لوجه الله الكريم.
وكذا جميع الرسل-عليهم الصلاة
والسلام- لا يسألون الناس أجرا على دعوتهم إياهم، وقد تقدم في الفقرة
الأولى من الجواب: حديث عمران بن حصين في التحذير من التكسب بالقرآن وسؤال
الناس به.
أما ما سألت عنه من عقوبته يوم القيامة بتساقط لحم
وجهه، فذلك وعيد لكل من سأل الناس، وهو في غير حاجة تضطره إلى المسألة،
ولا مبرر لديه يبيح له أن يسأل الناس، وسواء كان بقراءة القرآن، أم بدون
قراءته، فعن عبد الله ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- : لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله، وليس في وجهه مزعة لحم
، وفي رواية عنه: ما يزال الرجل يسأل الناس، حتى يأتي يوم القيامة، وليس في وجهه مزعة لحم متفق عليهما.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: من سأل الناس أموالهم تكثرًا، فإنما يسأل جمرًا، ليستقل أو ليستكثر
رواه مسلم.
من سأل الناس بالقرآن، صدق فيه الحديث المتقدم في الفقرة الأولى من
الجواب، إن كان فقيرًا، أما إن كان غنيًا، فقد صدقت فيه هذه الأحاديث
كلها.
أما لفظ الحديث، الذي ذكرته في السؤال، فلا نعلم صحته بهذا اللفظ، الذي ذكرته.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.