الجواب عن الشطر الأول من
السؤال نقلي وعقلي: أما النقلي: فـما جاء في مقدمة الطبـري من أن العلماء
قـالوا: إن المعلوم على القطع والبينات أن قراءة القرآن تلقينًا متواترة
عن كافة المشايخ جيلا فجيلا، من عصر الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-
إلى عصرنا الحالي، وليس فيها تلحين ولا تطريب، مع كـثرة المتـعـمقين في
مخـارج الحـروف وفي المد والإدغام، وغير ذلك من كيفية القراءات، ثـم إن في
الترجيع والتطريب همز مـا ليس بمهـموز، ومد ما ليس بممدود. فترجع الألف
الواحـدة ألفات، والواو الواحدة واوات، فيؤدي ذلك إلى زيادة في القرآن
وذلك ممنوع، وإن وافق ذلك موضع نبرة وهمـزة، صـيروها نبرات وهمـزات،
والنبرة حينما وقـعت من الحروف، فـإنما هي همزة واحدة لا غير إما ممدودة
أو مقصورة.
فإن قيل: فقد روى عبد الله بن مغفل قال: قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مسير له سورة الفتح على راحلته، فرجَّـع في قراءته
. وذكـره البخاري وقال في صفة الترجيع (آ آ آ) ثلاث مرات.
قلنا: ذلك محمول على إشباع المد في موضعه، ويحتمل أن يكون حكاية صوته عند
هز الراحلة، كما يعتري رافع صوته، إذا كان راكبًا من انضغاط صوته وتقطيعه؛
لأجل هز المركوب. وإذا احتمل هذا فلا حجة فيه.
وقد أخرج أبو محـمد عبد الغني بن سعيد الحافـظ، من حـديث قـتادة عن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أبيه قال: كانت قراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المد، وليس فيها ترجيع .
وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مؤذن يطرب، فقال رسول الله: إن الآذان سهل سمح، فإذا كـان آذانك سمحًا سهلا، وإلا فلا تؤذن
، أخرجه الدار قطني في سننه. .
فإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد منع ذلك في الآذان، فأحرى أن لا يجوزه في القرآن، الذي حفظه الرحمن، فقال -وقوله الحق -:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
،
وَقال -تبارك وتعالى-:
لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ
.
قلت: وهذا الخـلاف، إنما هو مـا دام يفـهم مـعنى القـرآن بتـرديد الأصوات
وكثرة التـرجيعات، فإن زاد الأمر على ذلك حـتى لا يفهم معناه، فذلك حرام
بالاتفاق كـما يفعل القراء بالديار المصرية، الذين يقرؤون أمام الملوك
والجـنائز، ويأخذون على ذلك الأجور والجوائز، ضل سعيهم وخاب عملهم.
فيستحلون بذلك تغـيير كـتـاب الله، ويهونون على نفوسـهم الاجـتـراء على
الله، بأن يزيدوا في ترتيله ما ليس فـيـه؛ جهلا بدينهم ومروقًا عن سنة
نبيهم، ورفضًا لسير الصالحين فيه من سلفهم، ونزوعًا إلى ما يزين لهم
الشيطان من أعمالهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فهم في غيهم يتردون،
وبكتاب الله يتلاعبون، فإنا لله وإنا إليه لراجعون، ولكن قد أخبرالصادق أن
ذلك يكون، فكان كما أخبر، صلى الله عليه وسلم .
ذكر الإمام
الحافظ أبو الحسين رزين، وأبو عبد الله الترمذي الحكيم في نوادر الأصول،
من حديث حذيفة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
اقرؤوا القرآن بلحـون العرب وأصـواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق ولحون أهل
الكتابين، وسـيجيء بـعدي قوم يرجِّـعون بالقرآن ترجـيع الغناء والنوح، لا
يجـاوز حناجـرهم، مـفتـونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبـهم شأنهم
واللحون: جمع لحن، وهو التطريب وتحسينه بالقراءة والشعر والغناء.
قال علماؤنا: ويشبـه أن يكون هذا الذي يفـعله قـراء زماننا بين يدي
الوعاظ، وفي المجالس من اللحون الأعجمية، التي يقرؤون بها ما نهى رسول
الله، صلى الله عليه وسلم. والترجيع في القرآن ترديد الحروف كقراءة
النصارى. والترتيل في القراءة: هو التأني فيـها، والتمهل وتبيين الحروف
تشبيهًا بالثغر المرتل، وهو المشبه بنـور الأقحوان. وهو المطلوب في
القراءة، قال الله -تعالى-:
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا
.
وسـئلت أم سلمة عن قـراءة رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت:
مـا لكـم وصلاته، كـان يصلي، ثم ينام قـدر ما صلى، ثم يصلي قـدر ما نام،
ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح، ثم نعتت قراءته، فإذا هي تنعت قراءة مفسرة
حرفًا حرفًا
أخرجه النسائي وأبو داود والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
هذا بعض ما جاء في مقدمة الطبري من الجزء الأول من تفسيره.
وللأستاذ: مصطفى صـادق الرافـعي -رحـمـه الله- في كـتابه: "إعجاز القرآن" بحث قيـم بعنوان: "قراءة التلحين" نذكـر منه ما يأتي: .
ومما ابتدع في القراءة والأداء هذا التلحين، الذي بقي إلى اليـوم يتناقله
المفتونة قلوبهم، وقلوب من يعجبهم شأنهم، ويقرؤون به على ما يشبه الإيقاع،
وهو الغناء النقي، ومن أنواعه عندهم في أقسام النغم: .
الترعيد: وهو أن يرعد القارئ صوته، قالوا: كأنه يرعد من البرد والألم. .
التـرقـيص: وهو أنه يروم السكوت على السـاكن، ثم ينقـر مع الحركة كأنه في عدو أو هرولة. .
التطريب: وهو أن يترنم بالقرآن، ويتنغم به، فيمد في غير مواضع المد، ويزيد في المد إن أصاب موضعه.
التحزين: وهو أن يأتي بالقراءة على وجه حزين، يكاد يبكي مع خشوع وخضوع.
الترديد: وهو رد الجـمـاعة على القارئ في خـتام قراءته بلحن واحد على وجه من تلك الوجوه. .
وإنما كانت القراءة تحقيقًا، أو حدرًا، أو تدويرًا، والتحقيق: إعطاء كل
حرف حـقه على مقتضى ما قرره العلماء مع ترتيل وتؤده. والحـدر: إدراج
القراءة وسرعتها، مع مراعاة شروط الأداء الصحيحة. والتدوير: التوسط بين
التحقيق والحدر.
فلما كانت المائة الثانية كان أول من قرأ
بالتلحين والتطنين عبيد الله ابن أبي بكرة، وكـانت قراءته حزنًا ليست على
شيء من ألحان الغناء والحداء، فورث ذلك عنه حفيده عبد الله بن عمر بن عبيد
الله، فـهو الذي يقال له قراءة ابن عمر، وأخذها عنه الأباضي، ثم أخذ سعيد
بن العلاف وأخـوه عن الأباضي، وصار سـعيد رأس هذه القراءة في زمنه، وعرفت
به؛ لأنه اتصل بالرشيد فأعجب بقراءته وكان يحظيه ويعطيه، حتى عرف بين
الناس بقارئ أمير المؤمنين.
وكان القراء بعده كالهيثـم وأَبان
وابن أعين وغيرهم، ممن يقرؤون في المجالس والمساجد، يدخلون في القراءة
ألحان الغناء والحداء والرهبانية. فمنهم من كـان يدس الشيء من ذلك دسا
خـفيًا، ومنهم من يجهر به فمن هذا قراءة الهيثم:
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ
فإنه كان يختلس المد اختلاسًا فيقرؤها: (لمسكين)، وإنما سلخه من صوت الغناء كـهيئة اللحن في قول الشاعر:
أَمَّا الْقَطَاةُ فَإِنِّي سَوْفَ أَنْعَتَهُا
*****
نَعْتًا يُوَافِقُ عِنْدِي بَعْضَ مَا فِيهَا
أي ما فيها. وكان ابن أعين يدخل الشيء من ذلك، ويخفيه حتى كان الترمذي
محـمد بن سعيد في المائة الثالثة، وكـان الخلفاء والأمراء يومئذ، قد
أولعوا بالغناء وافتَنُّوا فيه، فقرأ محـمد هذا على الأغاني المولدة
المحدثة، سلخها في القراءة بأعيانها.
وقـال صاحب جـمـال القراء: إن أول ما غني به في القرآن قـراءة الهيثم / (أما السفينة)
كـما تقدم، فلعل ذلك أول ما ظهـر منه، ولم يكن يـعرف مثل هـذا الشـيء
لعـهـد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا لعـهد أصـحـابه وتابعيه، إلا ما
رواه الترمذي في الشمائل. .
واختلفوا في تفسيره، فقد روى
بإسناده عن عبد الله بن مغفل قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- على
ناقـة يوم الفـتح (فـتح مكة) وهو يقـرأ قـوله -تعالى-:
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا *
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ
قال: فـقرأ ورجَّـع، وفسره ابن المغفل بقـول: (آ آ آ) بهمزة مفتوحة بعدها ألف ساكنة ثلاث مرات، ولا خلاف بينهم في أن هذا الترجيع لم يكن ترجيع غناء.
وكان في الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم- من يُحْكِـم القراءة على أحسن
وجوهها، ويؤديها بأفصح مخرج، فكأنما يُسمع منه القرآن غضًا طريًا لفصاحتـه
وعذوبة منطقه، وانتظام نبراته وهو لحن اللغة- نفسها- في طبيعتها لا لحن
القراءة في الصناعة.
على أن كـثيرًا من العرب، كـانوا يقرؤون
القرآن ولا يعفون ألسنتهم مما اعـتـادته في هيـئـة إنشـاد الشـعر مما لا
يخل بالأداء، ولكنه يـعطي القـراءة شبـهًا من الإنشـاد- تقريبًا- لتـمكن
ذلك منـهم، وانطبـاع الأوزان في الفطرة حـتى قـيل في بعضـهم: إنه يقـرأ
القرآن كأنه رجـز الأعراب.
وهذا عندنا هو الأصل فيـما فـشـا
بعد ذلك من الخروج عن هيئة الإنشاد إلى هيئـة التلحين، وخـاصة بعـد أن
ابتـدع الزنادقـة في إنشاد الشعر هذا النوع الذي يسـمونه التغبير، ولم يكن
معروفا في إنشاد الشـعـر قـبل ذلك، وهم أنهـم يتناشـدون الشـعـر بالألحـان
فـيطربون ويرقصون ويهرجون، ويقال لمن يفعلون ذلك المغبرة. وعن الشافـعي
-رحمه الله-: أرى الزنادقة وضعوا هذا التغبير؛ ليصدوا الناس عن ذكر الله
وقراءة القرآن.
وبالجملة، فإن المتعبد يفهم معاني القرآن في
وزن التعبد بتصحيح ألفاظه، وإقامة حـروفه على الصفـة المتلقاة من أئمة
القراءة المتـصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد عقد الإمام
جلال الدين السيوطي في الجزء الأول من كـتابه: "الإتقان في علوم القرآن"
فصلا في "كـيفيـات القراءة" بالصفـحـة 172. وسنذكر منه ما يلي: .
كيفيات القراءة ثلاث: .
ا- التحقيق: وهو إعطاء كل حرف حـقه من إشباع المد، وتحقيق الهمزة، وإتمام
الحركـات، واعتماد الإظهار والتشديدات وتفكيكـها، وإخـراج بعضها من بعض
بالسكـت والترتيل والتؤدة، وملاحظة الجـائز من الوقوف بلا قصر ولا اختلاس،
ولا إسكان محرك ولا إدغامه، وهو يكـون لرياضـة الألسن وتقـويم الألفـاظ،
ويسـتـحب الأخـذ به على المتعلمين من غـير أن يتجـاوز إلى حـد الإفـراط
بتوليـد الحـروف من الحركات وتكرير الراءات، وتحريك السواكن، وتطنين
النونات بالمبالغة في الغنات، كـمـا قـال حـمزة لبعض من سمعـه يبالغ في
ذلك: أمـا علمت أن ما فوق البيـاض برص، وما فوق الجـعودة قطط، وما فوق
القراءة ليس بقراءة.
وكـذلك يحـترز عن الفصل بين حـروف
الكلمة، كـمن يقف على التاء من "نستعين" وقفة لطيفة مدعيًا أنه يرتل، وهذا
النوع من القراءة مذهب حـمزة، وقـد أخـرج فيه الداني حـديثـًا في كـتاب
التجـويد مسلسلا إلى أبي بن كـعب، أنه قرأ على رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- التحـقيق. وقال: إنه غريب مستقيم الإسناد.
2- الحـدر:
بفـتح الحـاء وسكون الدال، وهو: إدراج القـراءة وسرعتها وتخـفـيفها،
بالقصر والتسكين والاختلاس والبدل والإدغام الكبير وتخفيف الهمزة، ونحو
ذلك، مما صحت به الرواية، مع مراعاة إقامة الإعراب وتقويم اللفظ وتمكين
الحروف، بدون بتر حروف المد واختلاس أكـثر الحـركـات، وذهاب صـوت الغنة
والتـفريط إلى غاية لا تصح بها القراءة، ولا توصف بها التلاوة، وهذا النوع
هو مذهب ابن كـثير وأبي جعفر، وَمنْ قصر المنفصل كأبي عمرو ويعقوب.
3- التدوير: وهو التوسط بين المقامين بين التحقيق والحدر، وهو الذي ورد عن
أكثر الأئمة ممن مد المنفصل، ولم يبلغ فيه الإشباع، وهو مذهب سائر القراء،
وهو المختار عند أكثر أهل الأداء.
وسيأتي بيان استـحباب
الترتيل في القراءة، والفرق بينه وبين التحقيق فيما ذكـره بـعضهم: أن
التحـقيق يكون للرياضـة والتعليم والتمرين، والتوتيل للتدبر والتفكير
والاستنباط، فكل تحـقيق ترتيل وليس كل ترتيل تحقيقا ! .
ثم
جاء بعد ذلك- بفصل آخر- في تجويد القرآن قال فيه: من المهمات تجويد
القرآن. وقد أفرده جـماعة كـثيرون بالتصنيف، منهم الداني وغيـره، أخرج عن
أبي مسـعود أنه قال: (جودوا القرآن) قـال القراء: التجويد حلية القراءة،
وهو إعطاء الحروف حقوقها وترتيبها، ورد الحرف إلى مخرجه وأصله، بتلطيف
النطق به على كمال هيئة من غير إسراف ولا تعسف ولا إفراط ولا تكلف. .
وإلى ذلك أشار -صلى الله عليه وسلم- بقوله: من أحب أن يقرأ القرآن غضًا كـما نزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد
يعني: ابن مسعـود، وكان -رضي الله عنه- قد أعطى حظًا عظيـمًا في تجـويد
القرآن، ولا شك أن الأمة كـما هـم متعبدون بفـهم معاني القـرآن، وإقامة
حدوده، متـعبدون بتصحيح ألفاظه، وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة
القراء المتصلة بالحضرة النبوية.
وقد عد العلماء القراءة بغير
تجويد لحنًا، وقسموا اللحن إلى جلي وخـفي: فـاللحن الخـفي: خلل يـطرأ على
الألفـاظ فـيخل، إلا أن الجلي يخل إخلالا ظاهرًا، يشترك في معرفته علماء
القراءة وغيرهم، وهو الخطأ في الإعراب.
والخفي: يخل إخلالا يختص بمعرفـته علمـاء القراءة وأئمة الأداء، والذين تلقوه من أفواه العلماء، وضبطوه من أهل الأداء.
قال ابن الجرزي: "ولا أعلم لبلوغ النهاية في التجـويد، مثل رياضة الألسن
والتكرار على اللفظ المتلقى من فم المحسن". وقاعدته ترجـع إلى كـيفيـة
الوقف والإمالة والإدغام، وأحكـام الهمـزة، والترقـيق والتفخيم ،ومخارج
الحروف. .
ويكـفـينا هذا فى الدليل النقلي، الذي يثـبت بما لا
يدع مـجـالا للشك أن: قراءة القرآن يجب أن يراعى فيها الرجوع إلى ما كان
عليه الناس في عهـد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والتابعين، وليس
فيها ترجيع أو غناء0 .
وإذا كان المسلمون قد بدؤوا المائة
الأولى من الهجرة، بأن عدلوا عن القراءة على هذا النحو، فإن ذلك يعتبر
بدعة في قراءة القرآن، أي من أمر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بكتاب الله، الذي
نزل على رسوله، وسمعه الرسول من الوحي، وقرأه عليه ونقله إلى أصحابه كما
سمعه.
وهذه البدعة التي ابتدعها الزنادقة؛ ليصرفوا الناس عن
ذكر الله، وعن قراءة القرآن، كما قرأها الرسول وأصحابه من أخطر البدع؛ لأن
الله -تعالى- تعبدنا بفهم معاني القرآن، والعمل بأحكامه، وتعبدنا -أيضًا-
بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة التي تلقاها العلماء عن النبي صلى
الله عليه وسلم .
وإذا كان هذا هو رأي العلماء في قراءة
القرآن على صورة التلحين والغناء والتطريب، وهو المنع والتحريم، فإن من
المقطوع به: أنهم يحرمون بالأولى إخضاع القـرآن للنغمات الموسيقية،
وقراءته قراءة مصحـوبة بالآلات الموسيقية، والتغني به كما يفعلون بالقصائد
والأناشيد. .
وإذا صرفنا النظرعما نقل عن الصحفيين من العلماء
وأئمة القراء فـإن البحث يقتضينا القول: بمنع الغناء بالقرآن، وتلحينه
تلحـينًا موسيقيًا، وإسماعه للناس من المقرئين مصحوبًا بالآلات الموسيقية
كـما يسـمعون أية قطعـة غنائيـة، وبضرورة منع كل من يسعى لأن يفتن
المسلمين في كتابهم المقدس، الذي يحرصون- كل الحـرص- على أن يبقى له جلاله
واحترامه وقدسيته.
فإن القرآن هو كلام رب العالمين، أنزله
الله على الرسول -صلى الله عليه وسلم- هدى للناس وبينات من الهدى
والفرقان، ولم ينزله ليطرب به الناس، وليتغنوا به كـما يطربون، ويتغنون
بكلام البشر، وقد أمر المسلمون بفهم معانيه وتدبر ما فيه من عظات وآداب
بكل أحكامه.
وكتاب هذا شأنه، يجب أن يكون له قدسيته واحترامه،
وكل عمل يترتب عليه إخراجه عن هذه الغاية، يعتبر عملا منكرًا لا يقره
الدين، فـمن حق القرآن أن يسـمع في جـو من السكينة والاحـترام، قال الله
تعـالى:
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
.
وسماع القرآن كما تسمع الأغاني، يجعله أداة لهو وطرب، ينصرف فـيه السامع
إلى ما فيـه من لذة وطرب، عما أنزل القرآن له من هداية الناس وإرشادهم.
وإذا كـان من المسلـم به أن لكل مقام مقالا، وأن لكل مجلس ما يلائمه،
فمجلس الهداية والإرشاد يخالف مجلس اللهو والطرب، فلا يجـوز أن ننقل
القـرآن من أن يكـون هداية للناس، إلى أن يكون أداة للهوهم ولذتهم وطربهم.
ولعل أكبر دليل على الفرق بين المجلسين ما نشاهده- الآن- في
الأماكن التي يجتمـع فيها الناس؛ لسماع تلاوة القرآن من أحد المقرئين وفي
الأماكن التي يجتمعون فيها لسماع أحد المغنيين أو المغنيات، فإنهم في مجلس
القرآن، يفتحون آذانهم وقلوبهم لفهم معاني القرآن مع الخشوع والخضوع
والاحترام لمجلس القرآن.
وفي الغناء يطربون، ويصـخـبون، وتعلو
أصـواتـهم بالاسـتـحـسـان وطلب الإعادة والتكرير، وبغير ذلك من الألفاظ
التي تشعر بخروجهم عن حدود الوقار والسكينة، إلى مستلزمات الغناء والطرب.
وأيضًا، فـإن القرآن الملحن بالموسيقى، ليس هو القرآن الذي أنزله الله على
رسوله، وتعبدنا بتلاوته التي تلقيناها عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-
وإذا كان أهل الأديان السماوية السابقة، قد حرفوا وبدلوا في كتب الله التي
أنزلها الله عليـهم لهدايتـهم وإرشـادهم، فـإننا إذا أجـزنا قـراءة القرآن
ملحنًا تلحينًا موسيقيًا وسماعه مصحوبًا بآلات الموسيقى، نكون قد وقعنا
فيما وقع فـيـه غـيرنا، وحـرفنا كـتاب الله وبدلناه، وفي ذلك ضـيـاع الدين
وهلاك المسلمين.
ويجـب على علمـاء المسلمين ومـفكريـهم
والحـريصين على أن تستقيم أمور دينهم، أن يقفوا وقفة حاسمة، يمنعنون بها
كل من تحدثه نفسه بأن يقرأ القرآن ملحنًا تلحينًا موسيقيًا، ويتغنى به كما
يتغنى بأية قصيدة -من القصائد- حتى يدفعوا عن كتابهم شرًا مستطيرًا، يوشك
أن يقع به؛ وليـذكـروا قـول الله تعـالى:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
،
وقـوله تعـالى:
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا
يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ
مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ
إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ
.
والجواب عن الشطر الثاني من السؤال: .
إن كتابة المصحف توقيفية، لا يجوز إحداث تغيير فيها، فقد سئل مالك: هل
يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ فقال: لا، على الكتابة الأولى.
رواه الداني في المقنع، ثم قال: ولا مخالف له من علماء الأمة. .
وقال في موضع آخر: سئل مالك عن الحروف في القرآن مثل: الواو والألف، أترى
أن يغير من المصحف إذا وجد فيه كـذلك قال: لا. قال أبو عمرو: يعني الواو
والألف المزيدتين في الرسم، الممدودتين في اللفظ نحو "أولوا".
وقال الإمام أحمد: يحرم مخالفة خـط مصحف عثمان في واو، أو ياء، أو ألف، أو
غـيـر ذلك. وقـال البيهقي في (شـعب الإيمان): من يكتب مصحفًا، فينبغي أن
يحافظ على الهجاء، الذي كتبوا به تلك المصاحف، ولا يخالفهم فيه، ولا يغير
مما كتبوه شيئًا، فإنهم كانوا أكثر علمًا وأصدق قلبًا ولسـانًا وأعظم
أمانة منا، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكًا عليهم.
قال
الإمام السيوطي- بعد أن نقل ما تقدم- في كـتابه: "الإتقان في علوم
القرآن": قلت: وينحصر أمر الرسم في ست قواعد: الحذف والزيادة والهمزة
والبدل والوصل والفصل، وما فيه قراءتان، فكتب على إحداهما، ثم ذكر أحكام
هذه القواعد وتجدها مدونة في كتابه.
ومما تقدم يتضح أن رسم الكتابة في المصحف قد تلقاه العلماء وحـافظوا عليه، ولم يرتضوا مخالفته، وحرموا مخالفة خط مصحف عثمان.
وإذا كان هذا بالنسبة لكـتابة المصحف، ليوافق قواعد الهجاء التي تكتب بها،
فإن كتابته مصحوبة بالصور أولى بالمنع. ومن حرم تغيير رسم مصـحف عثـمان،
يحـرم أن يكتب المصـحف وفـيـه صـور تبين القصص الواردة فيه وتوضحها.
ومن ناحية أخرى، فإن إباحة تصوير المصحف تنجـم عنه مفاسد، يجب منعها، فإن
تصوير قصة يوسف- مثلا- معناه أن يصور بعض الأنبـيـاء صورًا لا تليق بمقام
النبـوة، وهو مقام له قـداسـته وحـرمـتـه، والاجتراء على مقام الأنبياء
حرام باتفاق العلماء. وكـذلك تصوير قصة آدم وحـواء، وخروجهما من الجنة،
وهبوطهما إلى الأرض، وكـشف سوآتهما مما لا يليق ولا يصح.
وبعد
فأية فائدة يمكن أن يحصل عليها المسلمون من الاجتراء على كلام رب
العالمين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم
حميد؟ .
فليتق الله، كل من يفكر في إباحة تصوير المصحف. فإن
المسلمين بخير ما حافظوا على كتاب الله، وهم على شر حال إذا ما تهاونوا في
المحافظة عليه؛ ولذلك كله نرى أنه لا يجـوز بحـال أن يطبع المصحف، وفيه أي
تغيير في رسمه وإضافة أية صورة إليه. والله -سبحانه وتعالى- أعلم. .