قال الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام { فبشرناه بغلام حليم * فما بلغ معه السعى قال يا بنى إنى أرى فى المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدنى إن شاء الله من الصابرين * فلما أسلما وتله للجبين . وناديناه أن يا إبراهيم . قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزى المحسنين * إن هذا لهو البلاء المبين * وفديناه بذبح عظيم * وتركنا عليه فى الآخرين * سلام على إبراهيم . كذلك نجزى المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين * وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين . وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين } الصافات : 101 -113 ، وقال عند الكلام عن الملائكة لما جاءت إبراهيم بالبشرى { وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } هود : 71 ، وقال فى موضع آخر { وبشروه بغلام عليم } الذاريات : 28 .
وروى الحاكم فى المستدرك عن معاوية بن أبى سفيان قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه أعرابى فقال : يا رسول الله ، خلفت البلاد يابسة والماء يابسا، هلك المال وضاع العيال ، فعد على مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين . قال : فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه .
وقد ذكره الزمخشرى فى الكشاف ، وقال الزيلعى فى تخريج أحاديثه : غريب .
وفي المواهب وشرحها للزرقاني وابن جرير وابن مردويه والثعلبي في تفاسيرهم عن معاوية ابن أبي سفيان قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه أعرابي، فقال يا رسول الله خَلَّفتُ البلاد يابسا، والماء يابسا، وفي نسخة الكلأ يابسا، وخلفت المال عابسا، هلك المال وضاع العيال، فعد عليَّ مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، والحديث حسن بل صححه الحاكم والذهبي لتقوّيه بتعدد طرقه .
وجاء فى كتب السيرة أن عبد المطلب نذر إن رزقه الله عشرة بنين ليذبحن أحدهم قربانا لله ، وذلك عندما منعته قريش من حفر زمزم ولم يكن معه إذ ذاك إلا ولده الحارث ، وعندما رزق بالبنين وأراد أن يوفى بنذره جاءت القرعة على عبد الله " والد النبىصلى الله عليه وسلم بعد " حتى افتدى أخيرا بمائة من الإبل ، ولهذا روى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " أنا ابن الذبيحين " أى إسماعيل الذى أمر الله أباه إبراهيم بذبحه ، وعبد الله والده ، الذى كان سيذبح .
إزاء هذه المرويات اختلف العلماء فى الذبيح الأول هل هو إسحاق أم إسماعيل ؟
يقول إبن كثير في قصص الأنبياء ص109- 110: فمن حكى القول عنه بأنه إسحاق : كعب الأحبار , وري عن عمر والعباس وعلى وابن مسعود , وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء والشعبي ومقاتل وعبيد بن عمير , وأبي ميسرة وزيد بن أسلم بن شقيق , والزهري والقاسم وابن أبي بردة , ومكحول , وعثمان بن حاضر والسدي والحسن وقتادة , وابن أبي الهذيل وابن سابط , وهو اختيار ابن جرير , وهذا عجب منه وهو أحدث الروايتين عن إبن عباس - ولكن الصحيح عنه وعن أكثر هؤلاء - أنه إسماعيل عليه السلام
وقال مجاهد وسعيد والشعبي ويوسف بن مهران وعطاء وغير واحد عن ابن عباس : هو إسماعيل عليه السلام
وقال ابن جرير : حدثني يونس , أنبأنا ابن وهب , أخبرني عمرو بن قيس , عن عطاء بن أبي رباح , عن ابن عباس أنه قال : المفدي إسماعيل , وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود
وقال عبد ابن الإمام أحمد , عن أبيه : هو إسماعيل .
وقال ابن أبي حاتم : سألت أبي عن الذبيح فقال : الصحيح أنه إسماعيل عليه السلام .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن علي وابن عمر وأبي هريرة , وأبي الطفيل , وسعيد بن المسيب , وسعيد بن جبير , والحسن ومجاهد , والشعبي , ومحمد بن كعب , وأبي جعفر محمد بن علي , وأبي صالح أنهم قالوا : الذبيح هو إسماعيل عليه السلام
وحكاه البغوي أيضا عن الربيع بن أنس الكلبي وأبي عمرو بن العلاء .
و ما ذهب اليه الجمهور هو أن الذبيح إسماعيل ، ومما يؤيد رأيهم ما يأتى :
1 - أن إبراهيم عليه السلام لما أنجاه الله من النار وهاجر من أرض العراق إلى الشام { وقال إنى ذاهب إلى ربى سيهدين } الصافات : 99 ، وبما تقدمت به السن ولم ينجب طلب من ربه أن يهب له ولدا فاستجاب الله له { رب هب لى من الصالحين . فبشرناه بغلام حليم } الصافات : 100 ، 101 ، وكان هذا الغلام من هاجر المصرية وهو بالشام ، وهو إسماعيل ، ولما لم تنجب زوجته الأولى دخلت الغيرة قلبها فأمره الله أن يبعد عنها هاجر وولدها ، فأسكنهما فى موضع مكة، وامتحنه بذبحه لما بلغ معه السعى وكان ذلك الامتحان فى مكة .
أما ابنه إسحاق فجاءت البشارة به بعد أن بشره الله بإسماعيل ، كما تدل عليه الآيات التى ذكرت الرؤيا والبدء فى الذبح ثم افتداء الله إسماعيل بذبح عظيم ، وانتهت بمدح إبراهيم ثم ذكرت البشارة بإسحاق .
والامتحان يكون بذبح الابن البكر الذى جاء بعد شوق طويل ، لا بالولد الثانى الذى لا يصل حبه إلى ما وصل إليه حب الأول .
2 - وأن إبراهيم عاش سلسلة من الامتحانات أكثرها يتصل بهاجر وولدها إسماعيل ، حيث أسكنهما بواد غير ذى زرع ، مسلما أمرهما إلى الله ، يعيش بعيدا عنهما فى الشام ، ويزورهما على فترات ، ثم يتصاعد الامتحان بأن يرى فى المنام أنه يذبح فلذة كبده ، وما ذلك إلا إسماعيل ، ولنتصور حال إبراهيم لو تم الذبح كيف يترك هاجر وحيدة فى مكان ليس فيه من الأنس ما فى الشام حيث يستقر به المقام ، إن سلسلة هذه الامتحانات المترابطة تؤكد أن الذبيح هو إسماعيل .
3- وأن هناك اختلافا فى الظروف التى بشر بها إبراهيم بكلا ولديه إسماعيل وإسحاق فالبشارة بإسماعيل كانت عند هجرته من أرض العراق وبطلب من الله أما البشارة بإسحاق فكانت عندما جاءته الملائكة فى طريق مرورها إلى قوم لوط ، وهى فترة كان فيها إسماعيل مع أمه هاجر بعيدين عن البيت ، الذى لم يكن فيه إلا سارة التى عجبت أن يولد لها وهى عجوز عقيم وبعلها شيخ كبير، ولم يكن هناك طلب منهما لهذا الولد والامتحان بذبح من طلبه وتشوق إليه امتحان أشد .
4 - أن الشروع فى ذبح إسماعيل صاحبته أحداث تدل على أنه هو المقصود بالذبح وليس إسحاق ، ذلك أن الروايات تقول : إن إبراهيم أخذ ولده وخرج به من البيت ليذبحه بعيدا عن أمه فلقيهما الشيطان فى الطريق وسول لهما عدم الاستجابة، فرجمه إبراهيم فى أكثر من مكان ، ومنه كانت شعيرة رمى الجمار من شعائر الحج ، وذلك فى مكة وليس فى الشام .
5 - عندما بشر الله إبراهيم وسارة بإسحاق عن طريق الملائكة ، جاء فى البشارة { ومن وراء إسحاق يعقوب } هود : 71 ، يعنى أن إسحاق سيولد ويكبر ويتزوج ويولد له يعقوب ، فهل يعقل بعد الاطمئنان على حياة إسحاق أن يذبحه أبوه ؟ إنه لو ذبحه فمن أين يكون يعقوب ؟ هذا دليل قوى على أن الذبيح هو إسماعيل .
6 - أن البشارة بإسماعيل وصفته بأنه غلام حليم ، أما البشارة بإسحاق فوصفته بأنه علام عليم ، وصفة الحلم تتناسب مع من أطاع أمر ربه وصدق رؤيا أبيه فلم يغضب ولم يعص ، وهو إسماعيل . وصفة العلم غالبة فى نسل إسحاق ويعقوب وبنى إسرائيل .
7 -أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن الأضاحى فقال " سنة أبيكم إبراهيم " رواه أحمد وابن ماجه وأبو العرب هو إسماعيل بن إبراهيم ، وليس إسحاق ابن إبراهيم ، كما هو معروف والقرابين كانت تذبح فى مكة وليس فى الشام استجابة لدعوة إبراهيم ربه { فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون } إبراهيم : 37 ، { وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق . ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير . ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق } الحج : 27 - 29 .
8 -أن كبار العلماء من السلف قالوا : إن الذبيح هو إسماعيل كما روى ذلك عطاء بن أبى رباح عن ابن عباس ، ومجاهد عن ابن عمر، والشعبى يقول : رأيت قرنى الكبش فى الكعبة ( كذا ) وعمر بن عبد العزيز استدعى يهوديا بالشام أسلم وحسن إسلامه فشهد بأن الذبيح إسماعيل .
وأبو عمرو بن العلاء سأله الأصمعى عن الذبيح فقال له : أين ذهب عقلك ، متى كان إسحاق بمكة؟ إنما كان إسماعيل بمكة وهو الذى بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة .
يقول الآلوسى بعد أن ساق أقوال العلماء فى ذلك : والذى أميل إليه أن الذبيح إسماعيل لأنه المروى عن كثير من أئمة أهل البيت ولم أتيقن صحة حديث مرفوع يقتضى خلاف ذلك ، وحال أهل الكتاب لا يخفى على ذوى الألباب .
هذا هو ما أثير حول هذا الموضوع لخصته من كتب السيرة، ومن زاد المعاد لابن القيم وغيره من المصادر، ينتهى إلى أن الذبيح هو إسماعيل ، وما سبق فى ذلك هو اجتهادات واستنباطات يؤيدها حديث الحاكم عن معاوية بعدم إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم على من ناداه بابن الذبيحين ، كما يؤيدها ما روى عنه صلى الله عليه وسلم من قوله " أنا ابن الذبيحين " .