الرد على شبهة الكلمة التي قيلت للمتطهر من الزنا
بقلم الشيخ/ رفاعي سرور
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
- عن أبي هُريرة رضي الله عنه قال: جاء الأسلميّ إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه أنّهُ أصاب امرأةً حرامًا أربع مرّاتٍ، كُلّ ذلك يُعرضُ عنهُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
فأقبل في الخامسة فقال: (أفعلت كذا) اللفظ المشاع علي ألسنة العامة؟ قال: نعم.
قال: «حتّى غاب ذلك منك في ذلك منها؟» قال: نعم.
قال: «كما يغيبُ المرودُ في المكحلة والرّشاءُ في البئر؟» قال: نعم.
قال: «هل تدري ما الزّنا؟» قال: نعم أتيتُ منها حرامًا ما يأتي الرّجُلُ من امرأته حلالًا.
قال: «فما تُريدُ بهذا القول؟» قال: أُريدُ أن تُطهّرني، فأمر به فرُجم([1]).
فسمع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم رجُلين من أصحابه يقُولُ أحدُهُما لصاحبه: انظُر إلى هذا الّذي ستر الله عليه فلم تدعهُ نفسُهُ حتّى رُجم رجم الكلب.
فسكت عنهُما، ثُمّ سار ساعةً حتّى مرّ بجيفة حمارٍ شائلٍ برجله، فقال: «أين فُلانٌ وفُلانٌ» فقالا: نحنُ ذان يا رسُول الله، فقال: «انزلا فكُلا من جيفة هذا الحمار» فقالا: يا نبيّ الله، من يأكُلُ من هذا؟ قال: «فما نلتُما من عرض أخيكُما آنفًا أشدّ من أكل منهُ، والّذي نفسي بيده إنّهُ الآن لفي أنهار الجنّة ينغمسُ فيها».
- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أتى ماعز بن مالك النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: «لعلك قبّلت، أو غمزت، أو نظرت» قال: لا يا رسول الله، قال:(اللفظ المشار إليه) لا يُكنِّي، قال: فعند ذلك أمر برجمه([2]).
فأخرج به إلى الحرة فلما رجم فوجد مس الحجارة، فخرج يشتد فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز أصحابه فنزع له بوظيف([3])بعير، فرماه به فقتله، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال «هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه»([4])
وفيه جواز تلقين المقر في الحدود إذ لفظ الزنى يقع على نظر العين وغيره([5])، وقد يستعملون صريح الاسم لمصلحة راجحة وهى إزالة اللبس أو الاشتراك أو نفي المجاز أو نحو ذلك كقوله تعالى: {الزانية والزانى} وكقوله صلى الله عليه وسلم أنكتها([6])؛ أي أنه ذكر هذا اللفظ صريحًا ولم يكنِّ عنه بلفظ آخر كالجماع، ويحتمل أن يجمع بأنه ذُكر بعد ذكر الجماع بأن الجماع قد يحمل على مجرد الاجتماع([7])، وحاصله: أنه صرح باللفظ؛ لأن الحدود لا تثبت بالكنايات..
وفي هذا اللفظ معني زائد لايغني في بيانه أي لفظ لآخر
المعنى اللغوي للكلمة
وما كان يقصده الرسول هو درء الحد عن الرجل لأن اللفظ فيه تقييد شديد يخرج الرجل من الحد الموجب للرجم ويمكن فهم ذلك من المشاكلة بين اللفظ الذي قيل ومعناه من مادة "نكت" حيث قيل في تفسيره "أأنكأتها "
النّكتُ: أن تنكُت بقضيبٍ في الشيء فتُؤثّر بطرفه فيه، والنكت: قرعُك الأرض بعُود أو بإصبع.
وعن علي رضي الله عنه قال:كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكت بمخصرته([8]).
الناكت أن يحز مرفق البعير في جنبه
ينحرف المرفق حتى يقع في الجنب فيخرقه
إذا أثر فيه قيل ناكت.. إذا حز قيل حاز
الفرس ينكت ينبو على الأرض
يقال للعظم المطبوخ فيه المخ فيضرب بطرفه رغيف أوشيء ليخرج مخه
ومن مجمل التعريفات تكون الدلالات الفعلية للكلمة هي:
التأثير في الشيء المقابل.
أن يبلغ التأثير حد الخرق؛
وبذلك يكون معني " أأنكأتها " أي أثرت فيها تأثيرًا بالغًا.
الارتفاع والانخفاض عن الأرض مثل الفرس (ينبو مثل الفرس).
وهذه الدلالات جاءت من خلال اللفظ كقيود تمنع إقامة الحد على الرجل.
ولم تكن هذه الدلالات لأي لفظ آخر في اللغة حيث كان من الممكن أن لا يقع الحد إذا لم تثبت أي دلالة منها.
وأن الألفاظ الأخرى قد تحتمل معانٍ أخرى لا تتناسب مع موقف التقاضي مثل لفظ الزني الذي يتضمن دلالات أخري مثل النظر أو اللمس أو الاشتهاء كما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العين تزني والقلب يزني؛ فزنا العين النظر، وزنا القلب التمني، والفرج يصدِّق ما هنالك أو يكذبه»([9]).
ولذلك ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل الألفاظ التي يخرج بها الرجل من طائلة الحد رحمة به وبدون الخروج عن شرع الله عز وجل فذكرت الرواية لما أتى ماعز بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لعلك قبّلت، أو غمزت، أو نظرت).
ولذلك ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل أوصاف الفعل لينفيها الرجل
قال: حتّى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ قال: نعم،
قال: كما يغيبُ المرودُ في المكحلة([10]) والرّشاءُ في البئر؟([11]) قال: نعم،
قال: هل تدري ما الزنا؟ قال: نعم اتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا.
قال: فما تُريدُ بهذا القول؟
قال: أُريدُ أن تُطهّرني، فأمر به فرُجم
وتعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع من يأتي معترفا على نفسه بالزني يحدد لنا قاعدة فقهية هامة وهي أن الأصل في التعامل هو إبعاد المعترف عن طائلة الحد باعتبار ستر الله عليه وهذا ما كان في كل حالات الاعتراف والمثال المعروف في ذلك هو تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الغامدية:
عن عبدُ الله بنُ بُريدة عن أبيه قال: "كُنّا أصحاب رسُول الله صلى الله عليه وسلم نتحدّثُ أنّ الغامديّة وماعز بن مالكٍ لو رجعا بعد اعترافهما ... لم يطلُبهُما وإنّما رجمهُما عند الرّابعة([12]).
وروى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: أنها جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: إن الأبعد قد زنى، فقال له: ويلك، وما يدريك، وما الزنا، فأمر به، فطرد.
وزاد فيه أحمد، قال هشام: فحدثني يزيد بن نعيم، عن أبيه، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال له حين رآه: واللّه يا هزال، لو كنت سترته بثوبك لكان خيرًا لك مما صنعت به([13]).
ـ وأن الغامدية قالت له عليه الصلاة والسلام: أتردني كما رددت ماعزًا، واللّه إني لحبلى من الزنا، قال: أما لا فاذهبي حتى تلدي، فلما ولدته أتته بصبي في خرقة، قالت: هذا ولدته، قال فاذهبي فارضعيه حتى تفطميه، فأتت بالصبي في يده كسرة خبز، قالت: هذا يا نبي اللّه قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها.
وقد نتسائل إذا كان الرسول لايريد أن يقيم عليه الحد فلم لم يرده من البداية
والحقيقة أن الإجابة تتضمن حقيقة هامة من حقائق الشريعة وهي أن من يأتي معترفا يكون الأصل في التعامل معه هو محاولة إخراجه من تحت طائلة الحد ولكن بشرط هام وهو الحذر من إهدار الحكم الشرعي المتعلق بالزني
فلو أن الرجل رد من البداية لكان في ذلك إهدار للحكم
والحياء خلق الإسلام كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
( إن لكل دين خلقا وخلق هذا الدين الحياء) صحيح البخارى - (ج 20 / ص 258(
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِى خِدْرِهَا ، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِى وَجْهِهِ
(كان أشد حياء) أي استحياء من ربه ومن الخلق؛ يعني حياؤه أشد (من) حياء (العذراء) البِكر؛
(في خدرها) أي: سترها
والأصل في كلام الشرعي هو الحياء ولذلك جاء التعبير عن المعاشرة الزوجية في القرآن غاية في الحياء مثل قول الله عز وجل ( فلما تغشاها حملت حملا خفيفا) وقول الله (أو لامستم النساء) وقول الله (من قبل أن تمسوهن)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَأَلَتِ امْرَأَةٌ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- كَيْفَ تَغْتَسِلُ مِنْ حَيْضَتِهَا قَالَ فَذَكَرَتْ أَنَّهُ عَلَّمَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ ثُمَّ تَأْخُذُ فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ فَتَطَهَّرُ بِهَا. قَالَتْ كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا قَالَ « تَطَهَّرِى بِهَا. سُبْحَانَ اللَّهِ ». وَاسْتَتَرَ - وَأَشَارَ لَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ بِيَدِهِ عَلَى وَجْهِهِ - قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ وَاجْتَذَبْتُهَا إِلَىَّ وَعَرَفْتُ مَا أَرَادَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ تَتَبَّعِى بِهَا أَثَرَ الدَّمِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِى عُمَرَ فِى رِوَايَتِهِ فَقُلْتُ تَتَبَّعِى بِهَا آثَارَ الدَّمِ. الفرصة : قطعة من قطن أو صوف صحيح مسلم - (ج 2 / ص 432)
ولكن التقاضي والحدود لها أحكامها ولهذا قال بالذي اعترف بالزنا (اللفظ المشار إليه) لا يكني كما بين في الصحيح في كتاب الحدود([14]).
ولذلك فان ما كان يقصده الرسول هو درء الحد عن الرجل لأن اللفظ فيه تقييد شديد يخرج الرجل من الحد الموجب للرجم ويمكن فهم ذلك من المشاكلة بين اللفظ الذي قيل ومعناه حيث قيل في تفسيره "أأنكأتها "
وقد يحتج الآخرون علي شدة اللفظ ..ولكن وضع التقاضي له أحكامه ولو أننا في وضع تقاضي وكان موضوع القضية هو الإتهام بالزني فسيقال كل ما لايخطر علي بال أحد
وفي مثل هذه القضية فان شدة اللفظ لاتقارن بشدة الحد حتي يراعي الخدش في مقابل أن يؤتي برجل ويحفر له ويقذف بالحجارة حتي يموت
لقد بلغت محاولة الرسول صلي الله عليه وسلم منع الحد عن الرجل أقصي حد لها بهذا اللفظ ولم يكن للتعبير عن الحالة التي أراد رسول الله أن ينجو الرجل بها الا هذا اللفظ
ومن هذا الموقف نفهم كيف أن اللغة العربية تمثل أساسا هاما في تحقيق التقاضي والتحاكم حيث لاتجد فعل أو حدث أو حالة أو موقف إلا وله مسماه الذي يمكن توصيفه الشرعي وتنزيل حكم الله عليه (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً) (الرعد:37)
([1]) سنن أبي داود (4428).
([2]) صحيح البخاري (6438).
([3]) خف البعير.
([4]) سنن أبي داود (4419).
([5])(عمدة القاري 24/2)
([6]) النووي (1/238).
([7]) الفتح (12/124).
([8]) صحيح البخاري (1296).
([9]) المسند (8338).
([10]) أي: الميل في المكحلة.
([11]) الرشاء: الذي يتوصل به إلى الماء.
([12])سنن ابي داود
([13]) المسند (21940).
([14]) فيض القدير (6480)