بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الجواب عن حديث الذباب وما تضمنه من استفسارات ألخصه في النقاط التالية:.
أولاً: إن الحديث صحيح رواه الإمام البخاري في جامعه الصحيح، ولكنه لا يعد من " المتفق عليه " في اصطلاح علماء الحديث، لأن المتفق عليه عندهم هو ما اتفق على روايته الشيخان - البخاري ومسلم - في صحيحهما . وهذا الحديث مما انفرد به البخاري، ولم يخرجه مسلم، رحمهما الله.
ومعلوم أن أحاديث صحيح البخاري متلقاة بالقبول لدى جماهير الأمة في مختلف العصور، وخصوصًا فيما سلم فيها من النقد والاعتراض من جهابذة علماء الأمة من المحدثين والفقهاء الراسخين.
ولا أعلم أحدًا من العلماء السابقين أثار إشكالاً حول هذا الحديث أو تحدث عن علة قادحة في سنده أو متنه.
ثانيًا: إن هذا الحديث لا يتعلق ببيان أصل من أصول الدين، من الإلهيات أو النبوات أوالسمعيات، ولا ببيان فريضة من فرائضه الظاهرة أو الباطنة، الشخصية أو الاجتماعية ... ولا ببيان أمر من أمور الحلال والحرام في حياة الفرد أو الجماعة، ولا ببيان تشريع من تشريعات الإسلام المنظمة لحياة الأسرة والمجتمع والدولة والعلاقات الدولية، ولا ببيان خلق من أخلاق الإسلام التي بعث الرسول ليتمم مكارمها.
ولو أن مسلمًا عاش عمره دون أن يقرأ هذا الحديث أو يسمع به، لم يكن ذلك خدشًا في دينه، ولا أثر ذلك في عقيدته أو عبادته، أو سلوكه العام.
فلو سلمنا - جدلاً - بكل ما أثاره المتشككون حول الحديث، وحذفناه من صحيح البخاري أصلاً، ما ضر ذلك دين الله شيئًا.
فلا مجال لأولئك الذين يتخذون من الشبهات المثارة حول الحديث، سبيلاً للطعن في الدين كله، فالدين - أعني الإسلام - أرسخ قدمًا، وأثبت أصولاً، وأعمق جذورًا من أن ينال منه بسبب هذه الشبهات الواهية.
ثالثًا: إن هذا الحديث - وإن كان صحيحًا لدى علماء الأمة - هو من أحاديث الآحاد، وليس من المتواتر الذي يفيد اليقين.
وأحاديث الآحاد إذا رواها الشيخان أو أحدهما قد اختلف فيها العلماء: هل تفيد العلم أي اليقين أم تفيد مجرد الظن الراجح ؟ أم يفيد بعضها العلم بشروط خاصة ؟.
وهذا الخلاف يكفي للقول بأن من أنكر حديثًا من أحاديث الآحاد، قامت شبهة في نفسه حول ثبوته ونسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . لا يخرج بذلك من الدين لأن الذي يخرج منه إنكار ما كان منه بيقين لا ريب فيه، ولا خلاف معه، أي القطعي الذي يسميه العلماء " المعلوم من الدين بالضرورة ".
إنما يخرج من الدين حقًا من اتخذ من الغبار المثار حول هذا الحديث وسيلة للطعن في الدين والاستهزاء به، فإن هذا كفر صريح.
رابعًا: أما مضمون الحديث وعلاقته بالعلم والطب الحديث، فقد دافع عنه كثير من كبار الأطباء ورجال العلم، مستشهدين ببحوث ودراسات لعلماء غربيين مرموقين . ونشر ذلك كثير من المجلات الإسلامية في مناسبات شتى.
وحسبي هنا أن أنقل ردا علميا طبيا حول هذا الموضوع، وهو للأستاذ الدكتور أمين رضا أستاذ جراحة العظام والتقويم بجامعة الإسكندرية، إثر مقال نشرته بعض الصحف لطبيب آخر تشكك في الحديث المذكور.
يقول الدكتور أمين رضا :. رفض أحد الأطباء الزملاء حديث الذبابة على أساس التحليل العلمي العقلي لمتنه لا على أساس سنده . وامتدادًا للمناقشة الهادئة التي بدأتها هذه الجريدة أرى أن أعارض الزميل الفاضل بما يأتي :.
1- ليس من حقه أن يرفض هذا الحديث أو أي حديث نبوي آخر لمجرد عدم موافقته للعلم الحالي . فالعلم يتطور ويتغير . بل ويتقلب كذلك . فمن النظريات العلمية ما تصف شيئًا اليوم بأنه صحيح . ثم تصفه بعد زمن قريب أو بعيد بأنه خطأ . فإذا كان هذا هو حال العلم فكيف يمكننا أن نصف حديثًا بأنه خطأ قياسًا على نظرية علمية حالية . ثم نرجع فنصححه إذا تغيرت هذه النظرية العلمية مستقبلاً ؟.
2- ليس من حقه رفض هذا الحديث أو أي حديث آخر لأنه " اصطدم بعقله اصطدامًا " على حد تعبيره . فالعيب الذي سبب هذا الاصطدام ليس من الحديث بل من العقل، فكل المهتمين بالعلوم الحديثة يحترمون عقولهم احترامًا عظيمًا . ومن احترام العقل أن نقارن العلم بالجهل .
العلم يتكون من أكداس المعرفة التي تراكمت لدى الإنسانية جمعاء بتضافر جهودها جيلا بعد جيل لسبر أغوار المجهول . أما الجهل فهو كل ما نجهله، أي ما لم يدخل بعد في نطاق العلم . وبالنظرة المتعقلة تجد أن العلم لم يكتمل بعد ، وإلا لتوقف تقدم الإنسانية ، وأن الجهل لا حدود له ، والدليل على ذلك تقدم العلم وتوالي الاكتشافات يومًا بعد يوم من غير أن يظهر للجهل نهاية .