التي بأيدي أهل الكتاب ... ثم مع هذا العلم الذي يعرفونه من كتبهم كما يعرفون أبناءهم يلبسون ذلك ، ويحرفونه ويبدلونه ، ولا يؤمنون به مع قيام الحجة عليهم ؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأٌّلِيمَ ﴾( يونس :96-97))([18])
وأما ابن عاشور فذكر أنه لا يستقيم من الاحتمالات في معنى الآية إلا اثنان :
الأول : أن تبقى الظرفية التي دلت عليها " في" على حقيقتها ، ويكون الشك قد أطلق وأريد به أصحابه ؛ أي : فإن كنت في قوم أهل شك مما أنزلنا إليك ، أي : يشكون في وقوع هذه القصص ، كما يقال : دخل في الفتنة ، أي في أهلها . ويكون معنى ﴿ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ : فاسأل أهل الكتاب سؤال تقرير وإشهاد عن صفة تلك الأخبار يخبروا بمثل ما أخبرتهم به ، فيزول الشك من نفوس أهل الشك ؛ إذ لا يحتمل تواطؤك مع أهل الكتاب على صفة واحدة لتلك الأخبار . فالمقصود من الآية إقامة الحجة على المشركين بشهادة أهل الكتاب من اليهود والنصارى قطعاً لمعذرتهم .
والاحتمال الثاني : أن تكون "في" للظرفية المجازية كالتي في قوله تعالى: ﴿ فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـؤُلاءِ ﴾ (هود: 109) ، ويكون سوق هذه المحاورة إلى النبي (ص) على طريقة التعريض ، لقصد أن يسمع ذلك المشركون فيكون استقرار حاصل المحاورة في نفوسهم أمكن مما لو ألقي إليهم مواجهة . وهذه طريقةٌ في الإلقاء التعريضي يسلكها الحكماء وأصحاب الأخلاق متى كان توجيه الكلام إلى الذي يقصد به مظنة نفور كما في قوله تعالى : ﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ (الزمر: 65) . أو كان في ذلك الإلقاء رفق بالذي يقصد سوق الكلام إليه .
قال ابن عاشور : ( وكلا الاحتمالين يلاقي قوله: ﴿ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ ؛ فإنه يقتضي أن المسؤول عنه مما لا يكتمه أهل الكتاب ، وأنهم يشهدون به ، وإنما يستقيم ذلك في القصص الموافقة لما في كتبهم ؛ فإنهم لا يتحرجون من إعلانها والشهادة بها . )
ثم بيّن أن غير هذين الاحتمالين يعكر عليه بعض ما في الآية ، وأن المخاطب النبي (ص) لمكان قوله : ﴿ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ ، وليس المراد بضمائر الخطاب كل من يصح أن يخاطب ؛ لأن قوله : ﴿ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ﴾ يناكد ذلك إلا بتعسف . ([19])
وما قرره ابن عاشور يدل على أن المسؤولين هم عموم أهل الكتاب ؛ وأن السؤول عنه مما لا يكتمونه ، وهو القصص الموافقة لما في كتبهم ، التي لا يتحرجون من إعلانها ، والشهادة بها .
وقد سبق ابنَ عاشور إلى هذا التقرير الألوسي ، حيث قال : ( والمراد بالموصول القصص، أي : إن كنت في شك من القصص المنزلة إليك - التي من جملتها قصة فرعون وقومه وأخبار بني إسرائيل - ﴿ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ ؛ فإن ذلك محقق عندهم ، ثابت في كتبهم حسبما أنزلناه إليك . وخصت القصص بالذكر لأن الأحكام المنزلة إليه عليه الصلاة والسلام ناسخة لأحكامهم مخالفة لها ؛ فلا يتصور سؤالهم عنها .)([20])
النتيجة :
لا خلاف بين المفسرين في نفي وقوع الشك من النبي (ص) ، وأنه لا يحتاج لسؤال أهل الكتاب حتى يتبين له صدق ما أنزله الله تعالى إليه .
وأما الموازنة بين أقوال في المفسرين في توجيه هذا الخطاب ؛ فلا شك أن ما اعتمده ابن القيم ، وقاله أبوحيان وجيه ، وهو أن الخطاب للنبي (ص). وليس في ذلك ما يدل على وقوع الشك منه ؛ لأن الجملة الشرطية لا تستلزم وقوع الشرط ولا الجواب ، ولا إمكان ذلك . وهذا الأسلوب يقصد منه تقرير أمور مهمة ، أهمها أمران :
الأول : تثبيت الأمة المسلمة ، وإعلامهم أن صفة نبيهم (ص) موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب . كما قال ابن كثير .
الثاني : إقامة الحجة على من كذب النبي (ص) ، وكفر بما جاء به ، سواء كان من كفار العرب ، أم من أهل الكتاب .
كما أن القول الذي رجحه ابن عطية ، وقرّر الرزاي صحته وجيه كذلك ، وهو أن الخطاب للنبي (ص) والمراد غيره ممن يمكن أن يقع منه الشك . وهذا قول أكثر المفسرين([21]) ، والشواهد على صحته كثيرة ([22]). وما ذكره بعض المفسرين من كون هذا القول لا يلتئم مع قول الله تعالى في الآية : ﴿ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ﴾ يجاب عنه بأن هذا كقول الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ﴾ (النساء:174) ([23]) ، وكقوله سبحانه : ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ (النحل:44) .
وأما المسألة الثانية ؛ فما رجحه ابن القيّم وجيه ، وهو موافق لعموم اللفظ . وقد بيّن الألوسي ، وابن عاشور وجه هذا القول ، وأنهم إنما يسألون فيما لا يكتمونه . وهذه الآية شبيهة بقول الله تعالى في الآية الأخرى : ﴿ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ (الأنعام:114)
تنبيهات وفوائد :
التنبيه الأول : نوع الخلاف وثمرته :
الخلاف بين الأقوال السابقة في تفسير هذه الآية منه ما هو خلاف تنوع ، ومنه ما هو خلاف تضاد . فالخلاف بين القولين الأول والثالث خلاف تضاد ، والخلاف بين بقية الأقوال خلاف تنوع ؛ لأنه لا تعارض بينها في الجملة
وثمرة هذا الخلاف : التوكيد على رفع توهم وقوع الشك من النبي (ص) ، وتكثير الوجوه الدالة على ذلك .
التنبيه الثاني : سبب الخلاف :
سبب الخلاف في المسألة الأولى هو توهم البعض أن ظاهر الآية يدل على وقوع الشك من النبي (ص) ؛ ولما كان الواقع خلاف هذا التوهم تنوعت أقوال المفسرين في توجيه الخطاب ، وحصل الخلاف بينهم في ذلك .
وفي المسألة الثانية ؛ سبب الخلاف هو احتمال اللفظ للقولين من جهة العموم والخصوص ، كما أنّ من أسباب ذلك اختلافهم في زمن نزول الآية ؛ هل هي مكية أو مدنية . وبيان ذلك في التنبيه الثالث
التنبيه الثالث : لمّا كان قول من قال : "إن المراد بالذين يقرأون الكتاب في الآية المؤمنون منهم" لا يتفق مع كون هذه السورة مكية ؛ ذهب بعضهم إلى أن هذه الآية مدنية ، وهي مما استثني من آيات هذه السورة . ولا شك أنّ هذا لا يقبل إلا بحجة بيّنة ، واستثناء بعض الآيات من سورة مكية خلاف الأصل ([24]). قال ابن عاشور تعليقاً على أقوال من استثنى بعض الآيات من سورة يونس المكية : ( وأحسب أن هذه الأقوال ناشئة عن ظن أن ما في القرآن من مجادلة مع أهل الكتاب لم ينزل إلا بالمدينة ، فإن كان كذلك فظن هؤلاء مخطىء .)([25])
....................................................................................
([1] ) أخرجه ابن جرير 15/202 ، وسبق الحكم على الإسناد إلى قتادة ، والحديث مرسل كما هو ظاهر .
([2] ) أخرجه ابن جرير 15/201 .
([3] ) جامع البيان 15/200-201 ، وبين النصين اختلاف في بعض مفردات .
([4] ) أخرجه ابن جرير 15/201 .
([5] ) أخرجه ابن جرير كذلك 15/201 . وفي إسناده الحسين بن الفرج : شيخ لا يعبأ بروايته ، قال فيه ابن معين : "كذاب ، صاحب سكر ، شاطر " . والطبري يروي عنه كثيراً بإسناد مجهل : " حدثت عن الحسين بن الفرج" . انظر تعليق شاكر على الأثر رقم 2719 في تفسير الطبري 3/408
([6] ) مثل مشهور ، يضرب لمن يتكل بكلام ويريد به شيئاً غيره . انظر قصة هذا المثل والأبيات التي جاء فيها في مجمع الأمثال للميداني 1/69-70 .
([7] ) معاني القرآن وإعرابه لأبي إسحاق الزجاج 3/32 .
([8] ) تأويل مشكل القرآن ص272-274 وقد علق ابن قتيبة على هذا التأويل بقوله : ( وهذا ، وإن كان جائزاً حسناً ، فإن المذهب الأول أعجب إلي ؛ لأن الكلام اتصل حتى قال : ﴿ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ . وهذا لا يجوز أن يكون إلا لرسول الله صلى الله عليه ) . ويقصد بالمذهب الأول : أن تكون المخاطبة لرسول الله (ص)، والمراد غيره من الشكاك . وهو ما اعتمده في تفسير غريب القرآن ص199 .
([9] ) أحكام أهل الذمة 1/12-15 ، وبدائع التفسير 2/410-414 .
([10] ) انظر جامع البيان 15/200-
([11] ) انظر المحرر الوجيز 7/217-218 .
([12] ) انظر التفسير الكبير 17/128-130 .
([13] ) ضعف الألوسي تفسير الشك بالضيق ، وحكم عليه بأنه بعيد جداً . انظر روح المعاني 11/190 .
([14] ) انظر الجامع لأحكام القرآن 8/382-383 .
([15] ) ووافقه الألوسي على هذا الحكم . انظر روح المعاني 11/190 .
([16] ) انظر البحر المحيط 6/105-106 .
([17] ) سبق تخريجه قريباً .
([18] ) تفسير القرآن العظيم 4/1772 .
([19] ) انظر التحرير والتنوير 11/284-285 .
([20] ) روح المعاني 11/190 .
([21] ) انظر الوسيط للواحدي 2/559 .
([22] ) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 3/32-33 ، وقد نص على أن هذا القول أحسن الأقوال .
([23] ) انظر الكشاف للزمخشري 2/203 .
([24] ) وهذا من الأصول المهمة في هذا الباب ؛ فالسورة التي يثبت نزولها بمكة تكون جميع آياتها مكية ، ولا يقبل الادعاء بأن شيئاً من آياتها نزل بالمدينة إلا بدليل يجب الرجوع إليه . والأمر كذلك السور المدنية . انظر قواعد التفسير للدكتور خالد السبت 1/77-78
([25] ) التحرير والتنوير 11/78
...............................................
بحث لفضيلة الدكتور: أبي مجاهد محمد بن عبدالله العبيدي القحطاني
جامعة الملك خالد- أبها